النجم الذي هوى.. علي محمد عبده
 
النجم الذي هوى
علي محمد عبده
 
أحيانا تكون الفاجعة في عزيز، بل كل فجيعة أكبر من أن تعبر عنها الكلمات. وهذه هي حالتنا إزاء الموت المفاجئ الذي داهم عبد الله عبد الوهاب نعمان وهو في قمة مرحة وهزله. وقد عبر المرحوم عن الفجيعة التي تلجم اللسان والأكبر من التعبير في مرثاته لصديقه المرحوم محمد أحمد نعمان الذي اغتيل في بيروت في 28 يونيو 1974 إذ عبر عن فجيعته فيه بقصيدة مطلعها:
               صاحبي مات فماتت كلماتي     وخبا ومضي وناحت أغنياتي
ومهما حاولنا لن نستطيع أن نعب عن فجيعتنا بوفاة عبد الله عبد الوهاب وسأكتفي بسرد نبذة عن حياته ومواقفه السياسية وأعماله الأدبية ونشاطه الصحفي كما عرفتها وعاصرتها وعايشتها.
مات عبد الله عبد الوهاب نعمان في 5 يوليو 1982 بالسكتة القلبية عن عمر يناهز الخامس والستين وعبد الله عبد الوهاب أشهر من أن يعرف فإلى كونه أحد رجال حركة الأحرار ومن أبرز كتابها فهو أديب وشاعر وصحفي جاد وساخر.
وعمله بالصحافة وإصداره جريدة الفضول في أحلك مراحل الحركة الوطنية أكسبه شهرة والصق اسم الجريدة بشخصيته.
تلقي دراسته في الحجرية مسقط رأسه على يد وتحت أشراف أخيه وابن عمه الأستاذ أحمد محمد نعمان، وفي صنعاء معتقل والده، وزبيد مدينة العلم المشهورة يومها. وفي أوائل الأربعينيات كان من ضمن الشباب المستنير الذين تجمعوا في تعز مقر ولي العهد السيف أحمد من اليمن كلها أمثال الأستاذ نعمان والزبيري والفسيل والموشكي والحضراني والشامي وغيرهم. وقد ساهم في النشاط الأدبي القائم هناك يومها إلى جانب قيامه بالتدريس بالمدرسة الأحمدية بتعز في الفترة ما بين 1941-1944. وقد انفض ذلك التجمع من حول ولي العهد بعد قولته المشهورة: "والله لأخضبن سيفي هذا بدماء العصريين حتى ألقي الله وهو راض عني."
وبعد نزوح الأستاذين الزبيري ونعمان إلى عدن اجتاحت البلاد موجة من الاعتقالات شملت الأحرار المتواجدين في الداخل وأقارب النازحين إلى عدن، وكان من ضمنهم أثني عشر شخصا من أقارب الأستاذ نعمان إلى جانب تجديد واعتقال الشيخ عبد الوهاب نعمان في صنعاء حتى سمي ذلك العام أي عام 1944 عام اعتقال الأحرار إذ ما من سجين من هؤلاء الأحرار إلا وسيق مكبلا بالقيود وبعضهم بالسلاسل المربوطة من عنق إلى عنق حتى سجون حجه، فودعهم عبد الله عبد الوهاب نعمان بقصيدة يقول فيها:
             سيروا فما الأغلال في أعناقكم إلاّ لمجدكـم العظيم شعــارُ
وأرسل القصيدة إلى عدن لتنشر في فتاة الجزيرة الجريدة الوحيدة التي تصدر في عدن، والتي احتضنت قضية الأحرار منذ بدايتها على شكل معارضة علنية، وكانت نسخ من القصيدة قد وزعت بتعز قبل إرسالها إلى عدن، فوصلت نسخة منها إلى يد ولي العهد السيف أحمد، فأشتد حنقا من ذلك وأمر باعتقال عبد الله عبد الوهاب. إلا أن صالح محسن السكرتير الخاص لولي العهد السيف احمد آنذاك والموالي للأحرار سرا قد حذر عبد الله عبد الوهاب نعمان ونصحه بالهروب إلى عدن.
وبذلك أسسوا حزب الأحرار اليمني. وأقسم كل من الأستاذ محمد محمود الزبيري والسيد زيد الموشكي و عبد الله عبد الوهاب نعمان على المصحف الشريف، وتعاهدوا على الصمود والتضحية في سبيل الشعب والوطن. وقد لخص كلا منهم شعرا كالتالي:
قسم الأستاذ محمد محمود الزبيري:
                بالله بالقـرآن بالأوطـان   لنحطمن معاقل الطغـيان
قسم السيد زيد الموشكي:
                سنطير أفواجا إلى أوج العلا  أولا فأرواحا إلى رضوان
قسم عبد الله عبد الوهاب نعمان:
             ستعانق الفوز المبين نفوسنا    حتما كما يتعانق الأخوان
وعلي إثر النشاط الذي كان يقوم به حزب الأحرار اليمني انزعج الإمام يحي وولي عهده احمد فأرسل كل من القاضي حسين الحلالي والقاضي محمد عبد الله الشامي والشيخ على محمد نعمان، الأخ الأكبر الأستاذ أحمد محمد نعمان، كل على حده لمراجعة الأحرار بضرورة عودة زعماء الأحرار إلي تعز، وبصورة خاصة الأستاذين نعمان والزبيري. هذا من جهة، ومن جهة أخرى للضغط على السلطات البريطانية في عدن لكسر نشاط الأحرار وحل الحزب، وإلاّ سوف يعلن الإمام الحرب ضد الحلفاء إلى جانب المحور في الحرب العالمية الثانية.
واتت ثمار ذلك إذ عاد معظم الأحرار، ولم يبق سوى الأساتذة نعمان والزبيري وعبد الله عبد الوهاب، بضغوط من احمد عبده ناشر، الذي استبشر بالحركة وهو هارب من بلاده إلى الحبشة، قبل إعلان المعارضة الصريحة والسافرة لحكم الإمام يحي، إذ تكفل بكل موارد العيش لهم، وبعث مع هذا التكفل بمبلغ يقيم بأودهم لمدة ثلاثة أشهر، في الوقت الذي حلت فيه السلطات البريطانية حزب الأحرار اليمني.
فقال عبد الله عبد الوهاب قصيدة يسخر فيها من الإمكانيات الحربية التي يهدد بها حكام المتوكلية بدخول الحرب وهم لا يملكون حتى ابسط الأسلحة ويقول في مطلعها:
 
               باللّحى باللّحى نُبيدُ قواهم       بالمساويك ننـزل الطائراتِ
               فمساويكـكم أشدُّ وأقوى      ولحِـاكُم من أبهر المعجزاتِ
 
كان ابرز قادة الأحرار قد التحقوا في سلك التدريس في مدرسة بازرعة الخيرية فور نزوحهم إلى عدن ليضمنوا لأنفسهم لقمة العيش الضرورية وكان عبد الله عبد الوهاب نعمان واحدا منهم. إلا أن مدير المدرسة رحمة الله وسامحة كان من مؤيدي الإمام يحي وولي عهده يعارض حركة الأحرار فأخذ يضايق من التحق منهم في سلك التدريس وبالتالي يضايق الطلبة المؤيدين لهم. فإلى جانب مختلف المضيقات اسند إلى عبد الله عبد الوهاب أن يعلم في الصفين الأول والثاني من المرحلة الابتدائية، فسبب له ذلك ضيقا شديداً، وكان يخرج من الصف إلى ساحة المدرسة في الاستراحة أو نهاية الدراسة وهو يحمل على كتفه القميص والكوت المشدة، إذ كان يومها لايزال يلبس الزي التقليدي للواء تعز، مكتفيا بالفنيلة والسروال بسبب حرارة الصيف، وهو يصب غضبه وسخطه على مدير المدرسة مخاطباً نفسه بلهجة الحجرية "يامرني أعلم أويلاد زغار وأنا قادر على تعليمه وتعليم أكبر منه".
وأنفصل مع زملائه الأحرار من سلك التدريس، وأثناء هذه الفترة أي في عام 1944م و1945م وحتى صدور جريد ة(صوت اليمن) عام 1947، كان يكتب الخطابات السياسية والمقالات المفتوحة المطولة الموجهة للحكام المتوكليين في فتاة الجزيرة بتوقيع (يمني بلا مأوى).
وعندما أسست (الجمعية اليمنية الكبرى) ومطبعة (النهضة اليمانية) التي صدرت منها (صوت اليمن) الناطقة باسم الجمعية، عمل مع الأخوان على عبد الواحد طارش ومحمد عبدالله الفسيل وهاشم محمد طالب وحسين عبد الحق الحروي وعبد العزيز الحروي، رحمه الله، وعبد الرحمن أحمد قاسم واحمد أمين عبد الواسع نعمان وسليمان طربوش والأستاذ سعيد الدمشقي والأستاذ عبد الله طاهر، في رصف حروف الجريدة وتشغيل المطبعة وإدارتها، هذا إلى جانب كتاباته فيها، بل أنه كاد يتخصص في الرد على جريدة الإيمان المتوكلية التي تهاجم الأحرار، ويتولي الرد عليها بقسوة وسخرية ومن ذلك: مقال نشرته (الإيمان) بعنوان (عين الحقيقة) فرد عليه في (صوت اليمن) بمقال عنوانه (عين الحقيقة العوراء).
بعد قيام ثورة 1948م، وطلوع كل قادة الأحرار إلى صنعاء طلع هو لبضعة أيام زار خلالها والده الشيخ الشهيد عبد الوهاب نعمان، وعاد إلى عدن، ليتولي إصدار جريدة (صوت اليمن). وبعد فشل حركة 1948م، ووصول الأستاذ محمد محمود الزبيري إلى عدن من جدة، اتفق مع الحاج عبد الله عثمان وعبد الله عبد الوهاب نعمان ومحمد سلام حاجب وعبده حسين الاهدل، قبل سفره إلى باكستان، بأنه سيوافيهم بأخباره ومحل إقامته أولا بأول، ولا يخبروا أحدا بذلك خوفا من أن يلحقه أذى من قبل الإمام أحمد وأذنابه. وقد نشطت المراسلات بينهم يوافونه إلى منفاه بكل ما يجد في الساحة اليمنية وينقلون أخباره ورسائله إلى الأستاذ نعمان في سجن حجة وإلى أسرته في صنعاء.
وفي عدن أصدر عبد الله عبد الوهاب جريدة (الفضول). وهذه التسمية تعود إلى الحلف الذي كان قائما في الجاهلية مهمته إنصاف المظلومين. ولم يكن لجريدة الفضول مكتب أو إدارة أو صندوق بريد خاص بها أو تليفون إذ كان هو هيئة التحرير وحقيبته التي لا تفارق يده والتي كان يسميها (خرج الفضول ) بضم الخاء كانت إدارته. وأثبت جدارة ومقدرة وطاقة من النشاط والإمكانيات الأدبية المتنوعة وبذلك كان هو بنفسه فريق كامل من المحررين ذوي المواهب المختلفة والكفاءات المتخصصة مزج فيها بين الجد والهزل وان بدت في أول آمرها فكاهية هزلية محضة.
وأذكر أن أول مقال سياسي جاد نشر فيها كان عنوانه (كعك الرماد) في الصفحة الأولى وكان بمناسبة الاحتفالات المقامة بعيد نصر الأمام على الأحرار والتي أقامتها جمعية الشباب اليمني الناطقة باسم الإمام أحمد والمعارضة لنشاط الأحرار وقد كان من بين فقرات الاحتفال الفقرة التي تكلم فيها رجال الدين أمثال مفتي الديار الحضرمية عبد ارحمن ابن عبد الله السقاف والشيخ باحميش قاضي عدن منددين بالأحرار ومشيدين بفضائل الإمام أحمد إذ خصص لذلك الاحتفال مقالا عنوانه بين المطرقة والسندان استهله بيتين من الشعر للإمام محمد عبده:
             ولست أبالي أن يقـال من   ابل أم اكتظــت عليه المآتم
             ولكن للإسلام أرجو سلامة  مخافـة أن تقضي عليه العمائم
 
وأردف بعد ذلك بقصيدة عارض فيها قصيدة المتنبي التي مطلعها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
بقوله:
              على قدر عرض الحقو تأتي المحازم
                                        وتأتي على قدر النفـاق المكارم
وقد حوت الجريدة الأبواب شبه الثابتة والتي كان أبرزها ما يلي:
1- المقال الافتتاحي
2- بين المطرقة والسندان
3- ملحة الإعراب
4- المعلقات
5- المقامات
6- إذاعة سوق الكدر
وقد حول الأبواب الأدبية واللغوية مثل الملحة والمقامات والمعلقات، وصاغ على منوالها قصائد هزلية تندد بأساليب الحكم الأمامي وأدواته القاسية الظالمة من تنافيذ وخطاط وأجور ضرائب ومشتقات الضرائب من بقايا وبدل ومآمير تقدير كالمثامرة ومآمير تحصيل مثل مأمور الصلاة (الغزالي) إذ جاء في ملحة الفضول تعريفا للدفع المعروف في ملحة الإعراب ما يلي :
 
                         مثل قولك يرفع العسكور عن منزلنا
 
وقد عرَّضه أسلوبه هذا وموقفه الصلب من أساليب حكم الأمام والإمامة للضرب والاعتداء مرتين شج في الأولى في رأسه وكسرت بعض أسنانه في الثانية ووقع الاعتداءين في مكان واحد بالقرب من سينما هريكن أثناء عودته في الماء من مطبعة فتاة الجزيرة التي كانت تطبع فيها جريدة الفضول سيرا على الأقدام إلى منزله الكائن أمام ميدان الباصات (بخار) أو مخرن بضائع حوله إلى سكن في عمارة خدابخش. وفي كلا الحالتين رقد في المستشفي بسبب ذلك الضرب إلا أنه جعل من الاعتداءين مادة لسخريته والتندر على المعتدين وعلي المؤجرين وعلي الشرطة المكلفة بحراسته في المستشفي. صاغ كل ذلك في قالب لاذع مرح وساخر تفوح منه معاني الشموخ والكبرياء. ففي أحد الاعتداءين اختطف المعتدي حقيبته اليدوية طامعا أن يجد فيها نقودا أو أسرارا متعلقة بالمعارضين للإمام معلقا على ذلك بمقال جاء فيه ما معناه:
"أن المعتدي الذي اختطف شنطة الفضول أو على الأصح خُرج الفضول كان يطمع أن يجد فيها نقودا والمسكين لا يعرف أن محتوياتها (حيش الكهمة) – أي حذاء الزوجة – اقتطعت فحملها بحقيبته إلى الخراز لإصلاحها وإلا شوية تنباك للمداعة الذي سيشربه قبل أن ينام." وتحدث عن الشرطي الذي تولي حراسته، وهو الكابول الهندي، الأحول المعروف بطبيعته بالطيبة وصفاء النفس والحب للآخرين وتجنبه لأذى المواطنين وذلك ما حرمه ترقية في رتبته العسكرية بالرغم من عمله مع الأمن الخدمة الكافية لترقيته. تحدث عبد الله عبد الوهاب نعمان عن طيبة هذا الإنسان الشرطي "بأنه وضع كرسيه أمام السرير الذي ينام عليه عبد الله عبد الوهاب نعمان ونزع طربوشه العسكري ووضعه على السرير ونام على الكرسي طيلة حراسة الليل وبدلا من أن ينام عبد الله عبد الوهاب مطمئنا إلى حراسة هذا الشرطي (الكابول) من أي إعتداء سهر عبد الله يحرس طربوش الشرطي من سرقة اللصوص".
وأنا على يقين أن لا صحة للحادثة ولكنه أتخذ من هذا الشرطي المخترع مادة لسخريته وقد علق على الاعتداء عليه في ملحة الإعراب في تعريفه لباب الفاعل بقولة:
والفاعل إبن الفاعل إبن الفاعلةواستأجر العصا كفعل السافلة
وخصص للاعتداء الأول قصيدة هزلية يتحدث فيها عن وقع ذلك في نفوس (الضباحى والعراطيط) أي الفقراء الذين توافدوا أسرابا لزيارته في المستشفي ( لا أحفظ القصيدة لكنني أتذكر منها ما معناه):
 
             أين البوليس فرأسي اليوم مخبوط
                                               مضمد جرحه بالشاش مربوط
 
وفي معارضته لقصيدة إمرؤ القيس (قفا نبكي) قال:
 
             قفا نبكي من قهر العساكر ياعلي
                                       ومن جيب مخزوق الجوانب مشعتل
 
وهكذا صنع في بقية الأبواب أستغلها في معارضتها استغلالا جيدا للتنديد بحكم الأمام وأساليبه.
قد ساعد طابع السخرية والفكاهة التي اتسمت بها (جريدة الفضول) على انتشارها كما أعطى شهرة واسعة لعبد الله عبد الوهاب نعمان إذ لصق به اسم الفضول وطغي على اسمه الحقيقي. وأدرك هو ذلك فراح يستغل الأسلوب الساخر في تحريريها – الفضول- حتى في الإعلانات التجارية مثالا على ذلك: فقد نشر إعلانا عن (مشاط سحري) يعمل على إزالة الشيب من الرأس: وأردف ذلك الإعلان في العدد الثاني بتحقيق عن صداه بين عجائز الناس اللاتي تجمعن أمام دكان بائع الأمشاط السحرية (هذه تسحب ورائها عنزة وأخرى تسحب نعجة لتقايض بها البائع بالمشاط السحري لأنها تمتلك نقودا وتلك عمدت على فتح علبه (الهكبة) –الادخار- التي تجمع فيها ما تتحايل عليه من مصروف الأسرة اليومي، وثانية عمدت إلى سحب مدخراتها من صاحب الحانوت الشحاري لتشتري به المشاط السحري. وزاد فأكد أن بعض العجائز لمست مفعول المشاط فأقعلن عن عادة سحق الفحم وطلاء رؤوسهن به لإخفاء الشيب.
إلى جانب ذلك، أشهر الفضول كثيراً من الشخصيات الشعبية البسيطة منهم بواسطة الإعلان عنهم من (إذاعة سوق الكدر) ومنهم من خلال الترويج لمبيعاتهم. ومن الشخصيات التي أشهرها رجل شائب أعمي لا أهل له ولا أقارب عرف بسلاطة لسانه وسرعة بديهته بإرسال سيل من الشتائم المقذعة على شخص يناديه (حمامة) وهو الاسم الذي عرف به. فكان يجتمع حواليه كثير من الشباب لمساجلته في الشتائم، وكان يتغلب عليهم جميعا فمنحه الفضول لقب الدكتور (حمامة)، ويعلن من إذاعة سوق الكدر في جريدته عن محاضرة في الأخلاق يلقيها الدكتور حمامة. ومن أشهرهم في جريدته شخصية حيدرة بائع العتر المتجول والذي لا يزال بائعوا العتر حتى اليوم يرددون ما كتب الفضول عنه (حوج ياحيدرة حوج) ومنهم أيضا (عكبور) عاقل الممدارة والدرين بائع الخردوات الذي قال عنه في خطاب مبجوش لمجلس الأمن أثر فشله في حل قضية فلسطين وعاتبه على فشله في قضايا الشعوب المظلومة ولام من أسسه وكونه وائتمنه على ذلك وقال له في النهاية (والله وبالله وتالله ما أرضي بك شوكي دار على شقادف الدرين)- كلمة شوكي دار كلمة هندية شائعة في عدن معناها حارس. هذا إلى جانب شخصيات كثيرة أشهرهم في جريدته.
مما أسف له الكثير أن الجريدة لم تعمر طويلا إذ أن السلطات البريطانية قد أغلقتها ولكن بقي اسمها ملتصقا باسم عبد الله عبد الوهاب نعمان حتى اليوم.
وهناك العديد من الروايات تستدعي الوقوف عندها منها:
الأولى: رسالة من أحد عملاء الإمام بعدن للإمام احمد أخبره فيها أنه كان هو وراء إقفال الجريدة بإقناع عبد الله عبد الوهاب باستلام مبلغ من المال مقابل ذلك تقربا منه وقد قرأت الرسالة بنفسي إلا أنني لم أخبر عبد الله عبد الوهاب بذلك.
الثانية: رواية سمعتها من المرحوم الشهيد محمد أحمد نعمان أن أحد المسئولين المقربين للإمام أحمد- لا داعي لذكر اسمه- زاول ضغوطا على السلطات بعدن أو طلب منها إقفال جريدة الفضول لأنها ركزت عليه في أعداد متتالية تنشر عنه النكت والتشنيعات التي كان الإمام أحمد يستروح لها فيقرأ ذلك في مجالسه وبحضور الشخص المعني الذي كان يجد حرجا من استغراق الإمام في الضحك على ما تنشره الجريدة عنه فسعي وراء إقفالها.
ثم قام بالإشراف على جريدة الكفاح التي كان يملكها حسن على بيومي ويرأس تحريرها حسين على بيومي. وهما معروفان بمواقفهما السياسية الممالية للسلطات. فراح عبد الله عبد الوهاب يكتب الافتتاحيات المؤيدة لمواقف الحركة الوطنية والتي تدين السياسة الفاشلة للسلطات ويوقع عليها باسم رئيس التحرير حسين بيومي ودخل في معارك كلامية رهيبة ضد بعض الصحف وكتابها لتعرضهم له لكونه نعماني يعارض اندماج المملكة المتوكلية في وحدة اندماجية مع الجمهورية العربية المتحدة المكونة من مصر وسوريا وهي الدعوة التي تبنتها رابطة أبناء الجنوب للشغال وإرباك الدعوة (للوحدة اليمنية) التي اجتمعت عليها القوي الوطنية في اجتماعها في الرابطة لترفعه كشعار في وجه وزير المستعمرات البريطانية (جرين وود) على ما أظن الذي كان على وشك الوصول إلى عدن إذ خصص عبد الله عبد الوهاب لذلك النزاع صفحة في جريدة الكفاح كان عنوانها: "البسباس" وأوجد فيها أبوابا مختلفة شعرا ونثرا منها رسائل متبادلة بين شخصيات وهمية وكلها تتناول من تعرضوا بالإساءة.
عرفته رحمة الله انه إذا تحمس لأي فكرة أو موقف تفاعل معه وحصر كل فكره وهمه فيه وسخر كل طاقاته له. حدث ذات مرة أنه كان يمسك مقود سيارته بيد واليد الأخرى يفحس بها شعرات رأسه ونحن في طريقنا لتناول الغداء معه معنا الأخوة محمد انعم غالب وعبد الله الاصنج مع آخرين من زبائن سفرته وإذا به يحيل مقود السيارة إلى جانب الطريق فيكتب بيتا أو بيتين من الشعر أو سخرية قاسية في خصومه من الكتاب وهو يتمتم سأسجلها قبل أن تطير من رأسي.
فسألته ذات يوم وهو يقف بسيارته جانباً: ماذا تصنع لو جادت القريحة وأنت في الحمام أجاب لتوه: إذا كان القلم معي أسجلها لساعتي في المرحاض وإذا لم فلا اشغل ذهني بغيرها.
في أوائل عام 1959 كان قد أعتزل الصحافة تحريرا وكتابة لكنه لم يعتزل العمل الوطني ونذكر له القصة التالية:
رأت السلطات البريطانية الإيعاز لرئيس حكومة اتحاد الإمارات الجنوبية لممثل الإمام محمد عبد الله الشامي توجيه دعوة غداء على أن يحضرها وزراء حكومة الاتحاد وأعضاء السلك الدبلوماسي بعدن والصحفيين البارزين. ونظرا لكون القاضي محمد عبد الله الشامي المفاوض مع سلاطين وأمراء المحميات والسياسيين والضباط البريطانيين منذ أواخر العشرينيات، فقد كان من الطبيعي أن يتردد كثيرا على عدن وتنشأ علاقات شخصية بينه وبين سلاطين وأمراء المحميات، مما جعله يعتبر الدعوة الموجهة إليه كسابقاتها من الدعوات، فقبلها بصورة عفوية وحسن نية، ولم يفطن إلى الفخ الذي نصب له، إذ أن حضوره يعني اعتراف المملكة المتوكلية بحكومة الاتحاد، وقد كانت الصحف ووكالات الأنباء تترقب حضوره لتنشر الخبر ولتأكيد مدلوله الدبلوماسي.
عندئذ تولي عبد الله عبد الوهاب مهمة تنبيه القاضي محمد الشامي الذي كان يقيم في فندق (متربول)، وبالفعل وجده أمام مدخل الفندق بانتظار السيارة التي ستقله إلى الحفل، فنبَّههُ للصبغة الرسمية لحفل الغداء، فما كان من القاضي الشامي إلا أن تناول وجبه الغداء سريعاً في الفندق، وجلس في غرفته للمقيل. وعندما جاء إليه الشخص المكلف بمرافقته إلى الحفل اعتذر القاضي عن الذهاب لأنه قد تناول وجبه الغداء وهو كما يراه ساعتها متكئ يمضغ القات.
كان موقف القاضي الشامي هذا بمثابة صدمة لم تتوقعها السلطات البريطانية والسلاطين وخيبة أمل لسياستهم وخرجت الصحف يومها حافلة بالتعليقات على ذكاء القاضي الشامي ودهائه.
وفي عام 1959 ساهم في الحملة الإعلامية التي قامت من أجل بناء( كلية بلقيس) في الشيخ عثمان أصدر كتيب بعنوان ( المعرفة سلاح المعركة) إلا أنه لم ينشر باسمه.
انتقل إلى صنعاء أواخر الستينات وتقلد كثيرا من المسئوليات منها وزارة الإعلام وساهم في كتابة كثير من التعليقات السياسية.
ومنذ عام 1968م كاد يتفرغ لكتابه الشعر الغنائي والأناشيد الوطنية إلا أنه كتب بعض القصائد الشعرية كان يكتفي بقراءتها على الأصدقاء.
ولم يكن انقطاعه أو توقفه عن مزاولة النشاط الصحفي والسياسي عن عجز وإنما عن قناعة وشجاعة إذ كان يردد (علينا أن نعترف بدون مكابرة أن دورنا انتهي).
وقد حرص منذ مستهل هذا العام 1982م على جمع أشعاره المبعثرة في قصاصات استعدادا لطبعها كما كان ينوي إصدار كتاب يسميه (مختارات الفضول) يجمع في بعض كتاباته في الصحف منذ الأربعينات وبالذات الفضول إلا أن الأجل وافاه قبل أن يحقق ذلك.
كان رحمه الله قمة في مواقفه سياسية وأعماله الأدبية قمة في هجائه وقمة في شعر العاطفي وقمة في شعره السياسي وقمة في شعره الوطني.
عاش نجما لامعا في سماء الأدب والفن والسياسة والصحافة بالرغم من محاولته الاختفاء عن الأضواء وعدم الظهور، إلاّ أن قوة أعماله التي تعرف بشخصيته وتبرز مواهبه ومقدرته ونبوغه كانت تدفعه إلى الأضواء، تعرف الآخرين به رغم كل محاولات التواري، حتى برز وفاء اليمن كلها في شخص الرئيس القائد العقيد على عبد الله صالح رئيس الشطر الشمالي من الوطن وأخيه على ناصر محمد رئيس الشطر الجنوبي من الوطن إذ منحا نجمنا الذي هوى قبل وفاته وسامي الفنون والآداب من الشطرين.
وبموته المفاجئ تحقق له ما أراد من الاختفاء بصورته وشخصيته ولكن مواقف وأعماله ستظل رمزا لصلابته ونبوغه ومصدرا لشهرته بعد موته.
    Up     Back
Copyright: www.alfudhool.com Email: info@alfudhool.com