ملاحظات على كتاب الظمأ العاطفي
 
ملاحظات على كتاب
"الظمأ العاطفي في شعر الفضول وألحان أيوب"
لكاتبه الأستاذ محي الدين علي سعيد
 
مروان عبدالله عبدالوهاب نعمان
مدخـــل
 
بدايةً، ينبغي علينا تسجيل التقدير الكبير للأخ الأستاذ محي الدين علي سعيد، على كتابه "الظمأ العاطفي في شعر الفضول وألحان أيوب"، وعلى الجهد الكبير الذي بذله لتناول أشعار والدي المغفور له عبدالله عبدالوهاب نعمان، وهو جهد عكس حب وتقدير كبيرين لوالدنا نشكره عليه. وكنت التقيت الكاتب لمرة واحدة في تعز في ذكرى تأبين الوالد رحمه الله في حفل أقامته مؤسسة السعيد بتلك المناسبة في مطلع يوليو 2002.
 
وفي ذلك اللقاء تحدثت ضمن متحدثين، وأوضحت نقاطاً هامة يجب أن أوردها حتى أضع الأمور في نصابها، بعد أحاديث كثيرة، عزفت عن التعليق أو الرد عليها، حول احتكار أبناء الفضول لأشعاره، والرغبة في الحصول على الأموال من تراث والدهم، وتحليلات وتعليقات عن أشعارها التي وردت في ديوان "الفيروزة"، الذي أصدره أخي المهندس عبدالكريم عبدالله عبدالوهاب نعمان، بعد وفاة والدنا مباشرة، واجتهادات أخرى كثيرة وردت في مجملها في "الظمأ العاطفي في شعر الفضول وألحان أيوب".
 
في ذلك الحديث، ومما لاشك فيه أنه مسجل في مؤسسة السعيد، قلت أن أبناء الفضول لم يحتكروا أشعاره كما يشاع، وأنني أودعت نسخة كاملة منها بعد وفاة والدي في المركز اليمني للدراسات والبحوث التابع لجامعة صنعاء، في صنعاء، والمفروض أنها أتيحت للباحثين والدارسين جميعاً. وبتلك المناسبة عرضت على الأستاذ محي الدين علي سعيد، أن أزوده بنسخة كاملة من تلك الأعمال قمت بإعدادها شخصياً على الكمبيوتر، ليستطيع أكمال ما نقص لديه. ولم يستفيد من ذلك العرض، ولعل السبب أن "الظمأ العاطفي في شعر الفضول وألحان أيوب" كان ناجزاً للطبع أو أنه طبع. وقد كان الأخ فيصل سعيد فارع حاضراً هذا العرض.
 
وفي ذلك، اللقاء جرى الحديث عن الأمور المادية بين ورثة الفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان، وبين أيوب طارش، وذكر البعض أن ذلك هو ما يعيق قيام أيوب طارش من استغلال قصائده الفضول الغنائية بعد وفاته.
 
وصرحت في ذلك اللقاء، أن أيوب طارش أبلغني بعد وفاة والدي أن لديه أربع قصائد، فقط، ويريد أن يغنيها، ويخاف من بعض الورثة أن يضايقونه، فقلت له أن عليه أن يغنيها، ولن يعترضه أحد من أخوتي. ولم أتطرق حينها معه إلى أية أموال، وحتى الآن.
 
وفي هذا المقام، فأنا أعرف حق المعرفة أن والدي، كان يتقاضى مبلغاً مقطوعاً ليس هيناً، مقابل كل أغنية يغنيها أيوب طارش، ليس من أيوب طارش ولكن من مالكي شركة 13 يونيو للتسجيلات. وأعتقد أن أيوب طارش يعرف هذا الأمر، وكم المبالغ التي كان يتقاضاها الوالد، وكم المبالغ التي يتقاضاها هو نفسه من مالكي شركة التسجيلات.ولا أعتقد أن هناك ما يعيب المرء في أن يتمسك بحقه من مورثه، مما يقتضي بالتالي أن يتنازل عن حقه كي لا يقال فيه عيباً. إن مؤسسة 13 يونيو للتسجيلات هي المستفيد الأول من قصائد الفضول وأغاني أيوب طارش، وعليها أداء حقوق الآخرين. وسأعود للحديث عن عدد القصائد التي بحوزة أيوب طارش لاحقاً.
 
وفي هذا المقام أيضاً، أستغرب إمعان المؤلف محي الدين علي سعيد، الإساءة إلينا جميع أبناء عبدالله عبدالوهاب نعمان الفضول، كلما انفعل في وصف قصيدة أو بيت، أو أثنى على الفنان أيوب طارش.  إنني أتمنى على المؤلف محي الدين علي سعيد الارتفاع عن الإساءة لنا بحجة حبه لوالدنا ودفاعا عن حق الوطن في معرفة المخبأ من شعر الفضول، وبحجة أن الفنان أيوب طارش هو صاحب حق موروث في أشعار الفضول، وعدم إعادة نشر ذلك في الطبعات اللاحقة من الكتاب. 
 
ملاحظــات حول الكتاب
 
أولاً: أن " كتاب الظمأ العاطفي في شعر الفضول وألحان أيوب"، خلط خلطاً واضحاً بين الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان الفضول، وبين الفنان الكبير أيوب طارش، في كثير من أبحاثه، وكأنه كان من الصعب الفصل بين الشخصيتين. ذلك أن عبدالله عبدالوهاب نعمان الفضول لم يبدأ تاريخه الأدبي والسياسي مع بداية تغني أيوب بأشعاره(1)، وإنما كان الفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان، شاعراً وأديباً وسياسياً منذ عشرينيات عمره، وقال، وهو في الثلاثينيات من عمره أقوى القصائد في هجاء الإمام يحي حميد الدين وأبنه من بعده الإمام أحمد بن يحي حميد الدين، في قصائد ساخرة ناظر فيها عظماء الشعراء العرب في صحيفة "الفضول".
 
كما أن عبدالله عبدالوهاب نعمان لم يتتلمذ وطنياً على يد القاضي محمد محمود الزبيري وزيد الموشكي(2)، كما رأى الأستاذ محي الدين علي سعيد، ولكنه رضع الوطنية من داخل الأسرة ومن تربية والده الشيخ الشهيد عبدالوهاب نعمان، رحمه الله، له. فقد كان الشهيد الشيخ عبدالوهاب نعمان، من أوائل مشائخ اليمن الأسفل الذي واجهوا عتو وجبروت نظام الإمامة البغيض منذ بداياته الأولى في أعقاب انسحاب الأتراك من اليمن في أعقاب الحرب العالمية الأولى. واصطدم بالإمام الطاغية يحي حميد الدين مما أدى إلى اعتقاله في صنعاء في المقام الشريف. وخلال أقامته تلك، قاد الشهيد الشيخ عبدالوهاب نعمان، مع بقية الأحرار، ثورة فبراير 1948، التي لم يكتب لها النجاح. وكان الشهيد عبدالوهاب نعمان والسيد حسين الكبسي، المخططين الرئيسين للثورة، كما عرفت من والدي، وأن لولاهما لما أطيح بالإمام يحي. وتم إعدام الشيخ عبدالوهاب نعمان في حجة. ومنذ اعتقاله إلى إعدامه حُرم الشهيد من رؤية موطنه في ذبحان بالحجرية في لواء تعز، مما اضطره إلى استقدام أسرته وأبنائه إلى صنعاء. وهناك كانت بدايات تعليم ودراسة الفضول على يد أبيه الشهيد الشيخ عبدالوهاب نعمان. إن الفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان كان ندا للزبيري والموشكي وغيرهم، وهو الوحيد الذي حمل شعلة الثورة والدفاع عنها من خلال صحيفته "الفضول"، في الوقت الذي تفرق فيه الجميع عن الساحة في عدن. 
 
ثانياً: إن من أسباب أي قصور في "الظمأ العاطفي في شعر الفضول وألحان أيوب"،  مما يتصل بقصائد وأغاني الفضول وتاريخه وعلاقاته، أنه اعتمد في ذلك فقط على زوجة والدي السيدة عزيزة أمين عبدالواسع نعمان. في حين أنه كان بإمكانه العودة إلى آخرين يمكن أن يكونوا أكثر فائدة في تاريخ الفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان وعلاقاته، ومنهم من كان قريب منه في تعز وهو الأستاذ الراحل محمد عبدالواسع حميد.
 
والوالد رحمه الله ارتبط بالسيدة عزيزة في مطلع السبيعينات وعاشت معه عشر سنوات حتى ووفاته في العام 1982. بينما زوجته الأولى آسيه الغوري، أم ثمانية من أولاده، لاتزال حيه ترزق، حتى يومنا، وهي التي عاشت معه أضنك أيام حياته في النضال في عدن، وفي تربية أولاده. وكان بالإمكان سؤالها عن كثير من حياة الفضول، فهي التي رافقته في هروبه من ذبحان إلى المهجر في عدن، وعاشت معه سنوات الجوع والفقر والعناء والتشرد. ولعلها كانت أكثر فائدة في بيان قصص الفضول العاطفية. وإن كنت أشك في أنها ستقول شيئاً الآن، وقد جاوزت الثمانين من سنوات عمرها، أمدها الله بالصحة.
 
هذا بالإضافة إلى أن زوجة الفضول الثانية، عزيزة بنت نعمان عبدالقادر نعمان، وهي ابنة عمه، وأم ستة من أولاده، وهي مطلقة، لاتزال حية ترزق. وقد ارتبط بها بحب كبير. وفوق ذلك، فإن زوجة الفضول الثالثة، وكانت من صنعاء، السيدة نفيسة رفعت إبراهيم، حية ترزق أيضاً، وقد ارتبط بها الفضول بعلاقة حب انتهت بالزوج، وقال فيها قصائد شعر كانت هي ملهمته بتلك القصائد.
 
ثم أن هناك سؤال جوهري كان يجب ألا يغيب عن ذهن الباحث، أو أن يجيب عليه إذا كان قد خطر له، وهو: هل بالضرورة أن يكون مصدر إلهام الفضول امرأة واحدة، ولابد بالضرورة أن تكون زوجتة؟
 
قصص والدي العاطفية كثيرة، وكان للتربية الدينية له أثرها، فقد كان يرتبط بحبيباته بالزوج. وكانت آخر حبيباته هي الاستثناء. وقد عكس ذلك في معظم قصائد الحب الرائعة التي قالها في "آخر الأرزاق" التي لم يتمكن من الارتباط بها بعد أن رفض أهلها ذلك، لتاريخ الفضول الزاخر بتعدد الزوجات، فضلاً عن الوالد كان قد جاوز الستين من العمر، بينما الحبيبة في ريعان الشباب.
 
فقد كان ذلك قصوراً جوهرياً جعل القارئ يعتقد أن زوجته الرابعة هي الزوجة الوحيدة التي كانت للفضول، وربط في ذهن المتتبع أن الإلهام واحد في كل شعر الفضول. بل أن المؤلف نفسه يعتقد ذلك، حينما قال أن الفضول "تزوج بعدها واستمر حبه لها وعشقه لمن بعدها ..." كما جاء في هامش الصفحة 114 من الكتاب. والوالد رحمه الله، عشق وأحب بعد زوجته الرابعة، وسنتطرق إلى هذا الأمر بالتفصيل لاحقاً وفي المكان المناسب.
 
وأخيراً، أيضاً، حسين السقاف، سائقه الخاص الذي رافق الفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان طويلاً، حتى وفاته، وكان مكمن أسراره.
 
وأضيف كذلك هنا، وفي هذا المقام، أنه قد كان بإمكانه أن يسألني شخصياً، طالما وهو يعرف أن أصول قصائد الفضول كانت بحوزتي ولاتزال. لقد أتاح لي القرب من والدي معرفة الكثير من التفاصيل التي لا تعرفها النساء. فوالدي لم يكن أباً لي وإنما كان صديقاً حميماً.
 
ثالثاً: أن الأخ محي الدين علي سعيد، بعاطفة جياشة، خلط في تحليلاته لشعر الوالد بين العاطفي والسياسي، وأسس على ذلك بأن حلل الكثير من القصائد العاطفية تحليلات سياسية ربط عواطف وحب وقصص عشق الوالد بحب الوطن وما يعنيه للشاعر. وقد تناسى في غمرة تلك التحليلات أن الفضول كان مباشراً في قصائده ولا يلجأ إلى الرمزية، ولم يكن بحاجة لمناجاة الوطن باسم حبيبته. وقد أدى ذلك إلى مخالفة الأستاذ الدكتور عبدالعزيز المقالح في تحليلاته لشعر الفضول.
 
ومن هنا، فلا بد من أن أتعرض إلى بعض الأمور مما ورد في "الظمأ العاطفي في شعر الفضول وألحان أيوب"، وأن أصحح، كلما أقتضى الأمر، بعض الأخطاء المادية اللازمة، وأن أعطي خلفية  ومناسبة كل قصيدة من القصائد، سواءاً سياسية كانت أو عاطفية، ليسهل على الجميع تحليل أشعار الفضول بخلفياتها. ذلك أنني لا أقصد من هذا البحث هو نقد كتاب "الظمأ العاطفي في شعر الفضول وألحان أيوب"، بقدرما أرمي إلى استيفاء ما أرى أنه ينقصه. فالكتاب جهد كبير جداً، وأنصف الوالد المغفور له عبدالله عبدالوهاب نعمان الفضول، وسجل له الكثير من مراحل تاريخه السياسي والأدبي. وأنا على يقين أن ما سأطرحه من ملاحظات، قد تشكل مفاجأة للكثيرين، وعلى رأسهم الأخ الأستاذ محي الدين علي سعيد، والتي كانت مقارباته لبعض القصائد لابد أن تقوده إلى أن للفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان كان عملاقاً بكل المقاييس في أدبه السياسي، وفي أدبه العاطفي وأن له ملهمات عدة وليس ملهمة واحدة.
 
 التعليقـــات
1.    ورد في أول الكتاب فيما يشبه التقديم الوارد بعنوان [محي الدين الفضول"] بقلم سمير رشاد اليوسفي، أن والدي رفض منح سيدة الغناء العربي أم كلثوم إحدى قصائده(3). والحقيقة غير ذلك على الإطلاق، والصحيح، حسبما جاء في السيرة الذاتية للوالد، أن الوالد، وعبر أصدقاءه المرحوم عبدالعزيز الحروي، والمرحوم جازم الحروي والمرحوم أمين قاسم سلطان، وكان الأخيران من أصدقاء سيدة الغناء العربي أم كلثوم رحمها الله، أعطى أم كلثوم قصيدة "لك أيامي" لتغنيها من جملة أغانيها التي اعتزمت غنائها لشعراء من كل الوطن العربي، غير أن ذلك لم يتحقق لوفاتها. وقد تسلم الوالد مبلغ ألف جنيه إسترليني قيمة للقصيدة. وكان المبلغ كبيراً بمقاييس وقته. ولهذا الأمر قصة من نوادر الوالد رحمه الله، فقد كان أصدقاءه يقولون له لماذا تصر على الفلوس يافضول، فإن غناء أم كلثوم لك سيدخلك التاريخ من أوسع أبوابه. وكان رده عليهم: ما اشتيش أدخل التاريخ من أوسع أبوابه. أشتي أدخل البنك من أزغر شحج. وبعد ذلك، أعطى الوالد بعض القصيدة الفنان أيوب طارش الذي قام بتلحين تلك القصيدة وغنائها. وسيلاحظ المتصفح القارئ أن قصيدة "لك أيامي" تلك التي غناها أيوب طارش، تختلف عن النص النهائي الذي ظل الفضول يجدد فيه إلى ما قبل وفاته، وترد هذه القصيدة في الموقع باسم "أحلام السنين". وبهذه المناسبة، فقد كانت القصيدة بشكلها الذي غناه الفنان أيوب طارش، موجهة للسيدة عزيزة أمين نعمان، بينما شكلها النهائي الوارد في هذا الموقع، فكانت موجهة إلى آخر الحبيبات، المجهولة، التي تغنى بقصيدة "يامن رحلت إلى بعيد" لأجلها.
 
2.    أورد المؤلف محي الدين علي سعيد(4)، أن الوالد رحمه الله، أعطى قصيدة "شق البحر شقه" للفنانة رجاء باسودان، وهذا الأمر غير صحيح، لأن هذا النص جزء من أغنية من أغنيات الفنان الشاعر الكبير القمندان، تحمل نفس مطلع قصيدة والدي "دق القاع دقه". وتقول كلمات الأغنية في مطلعها: "دق القاع دقه لاتجهب ولا  شق البحر شقه مادامك حلا". ولقصيدة والدي التي تحمل عنوان "دق القاع دقه" قصه معي، حيث كنا لانزال في عدن، ومع بدايات عودة الوالد إلى الشعر، ومع بدايات تنقله، بعد الثورة، بين الشمال والجنوب، حيث سألني عن أغنيه للقمندان مطلعها دق القاع دقه، وعما إذا كنت حافظاً لها، فأجبته بأنني أعرف الكلمات ورددتها عليه. وعلى الفور وعلى نفس وزن كتب مطلع قصيدة "دق القاع دقه" وقال "دق القاع دقه لاتمشي دلا واعطي القلب حقه من دنيا السلا". وبهذا تكون هذه القصيدة من أوائل القصائد التي غناها أيوب. وكانت في منتصف الستينيات. والقصيدة قيلت في امرأة أخرى، غير السيدة عزيزة أمين نعمان، لأنه لم يكن قد ارتبط بها بعد، ولم يرتبط بها الوالد، رحمه الله، إلا بعد أن بدأ الوالد في الاستقرار في تعز، بعد خروجه من سجن الرادع في أواخر العام 1968. بينما ارتباطه بها، كان في مطلع السبيعينات، وبالتالي لم تكن القصيدة من إلهامها. ولعل شهرة الأغنية أرتبط بشهرة قصة الحب التي ربطت الوالد بها، وانتهت بزواجهما.
 
3.    أكثر المؤلف محي الدين علي سعيد، وفي غير مرة، أن الفنان أيوب طارش لديه ما يزيد عن عشرين قصيدة من أشعار الوالد. وأعتقد أن هذا الأمر مبالغ به، فقد سبق أن أشرت هنا، أن أيوب طارش أبلغني بعد وفاة والدي أن لديه أربع قصائد، فقط، وأستئذنني في غنائها وأجبته. وهنا أؤكد أن والدي لم يكن يسلم القصيدة الواحدة لأيوب ألا مقاطعاً إلى أن تكتمل. وكل القصائد التي غناها أيوب طارش أو غيره، لاتوجد أصولها لدي. فإذا كان ذلك الأمر صحيحاً، سيكون من المناسب الإطلاع على أصولها لنقطع بأنها بخط الفضول ومن أشعاره. وعلى سبيل المثال، فإن أغنية "طعمك قُبَل" التي غناها عبد الباسط العبسي، لم تكن قد اكتملت، والنص الكامل لها موجود على هذا الموقع بين القصائد غير المنشور، وما غناه عبدالباسط العبسي هو بعضاً من مقاطعها فقط. إنني أشك بأن لدى الفنان أيوب طارش عشرين قصيدة من أشعار الفضول وبخط يده.
 
4.    أشار المؤلف محي الدين علي سعيد(5)، إلى أنه لم يكن بين الفضول وأيوب جدلاً مادياً. وأود أن أصحح هذا الأمر، فإن الوالد كان محباً لأيوب طارش بصفة خاصة، ولكن بسبب الخلافات المادية حول إيرادات الأغاني، وقعت القطيعة بين الوالد وأيوب،وقام الوالد بمنح عبدالباسط العبسي فرصة الغناء من أشعاره. وبعد أن سويت الأمور المادية بينهما وبين تسجيلات 13 يونيو، عادت ألأمور إلى سابق عهدها. وفترة القطيعة تلك هي فترة غناء عبدالباسط العبسي لأشعار الوالد، ولم يغني عبدالباسط للوالد بعد ذلك.
 
5.    في الباب الأول المعنون "وادي الضباب"، أود أن أوضح أن القصيدة الواردة في صفحتي 38 و39 هي من آواخر القصائد التي كتبها الشاعر في آخر عامين من عمره، وهي موجهة إلى الحبيبة المجهولة، التي عنى لها "يامن رحلت إلى بعيد"، وغيرها من القصائد الخالدة. وقراءة الأستاذ الدكتور عبدالعزيز المقالح لها هي القراءة الصحيحة(6)، حينما قال "استطاعت القصيدة أن تصور لنا كأصدق مايكون التصوير حكاية الحب الذي كان قوياً ورائعاً وكانت الحياة جميلة ومشرقة ثم ضاع فجأة وضاع معه (الحبيبان)، وليس ذلك وحسب بل لقد محاها الحب من وجهه العظيم". والقصيدة ليست حول قصة حب الإنسان للوطن، كما اعتقد المؤلف محي الدين علي سعيد(7). ولنفس الحبيبة ذاتها، كانت قصيدة "حبيت.. حبيت.. حبيت         ماشي حلما أو ترأيت"(8).
 
6.    وفي نفس الباب الأول، استعرض المؤلف محي الدين علي سعيد، قصيدة "في ذكرى ثورة 48"، وهي قصيدة لم تنشر في حينها، وكتبها الفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان لأن الوطن لايحتفي بذكرى هذه الثورة بالقدر الذي يليق بها. ومن هنا يستطيع القارئ أن يتلمس مساحة الحزن على التضحيات الجسام التي أداها الأحرار الأوائل ومواكب الشهداء، ومنهم الشهيد الشيخ عبدالوهاب نعمان. وقد قالها في آخر سنة من فترة حكم إبراهيم الحمدي، وعكست عدم رضاء عن كل ما هو جارٍ في الوطن. ويظهر ذلك من قول الشاعر:
 
كم بـازغٍ بدأت به أيامــه                   مسكوةً غرراً من الإحسـانِ
غنيته وشغلت أوتــري بـه                   وطرحته نغمـاً على أوزانـي
وحسبته أمن الجموع فجاءنـي                  صدق اليقين معاتباً حسبـاني
ومشى الغرور يريق فوق طباعه                  جرعاً تؤول به إلى الإدمـان
حزني لمن رفضت طفولتهم بهم                   أن يكبروا فيما سوى الأبدان
 
7.    تساءل المؤلف محي الدين علي سعيد(9)، في الباب الثاني من الكتاب المعنون "عدن عدن"، عن شعر الفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان في الفترة بين عامي 1950 و1965، على اعتبار أنها الفترة التي انقطع فيها الفضول عن الشعر والكتابة. وقد أصاب الأستاذ الدكتور عبدالعزيز المقالح، في كتاب "من أغوار الخفاء إلى مشارف التجلي"، بعضاً من الأسباب عندما قال بأن الوالد انصرف عن الشعر والأدب إلى بعض شئون الحياة. غير أن حقيقة الأمر، أن الصحيفة "الفضول" لم تصدر بعد رفض السلطات البريطانية مع نهاية العام 1953 تجديد ترخيص الصحيفة، وحتى ذلك الوقت كان الفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان يتولى مقاومة النظام الإمامي من خلال صحيفة "الفضول"، وتوضح الوثائق البريطانية الملحقة بهذا الموقع التآمر الإمامي البريطاني لإيقاف الصحيفة التي أقضت مضاجع الإمام أحمد حميد الدين. وما من شك أن إيقاف الصحيفة كان حدثاً مؤلماً للفضول شخصياً وللحركة الوطنية اليمنية عموما.
 
8.    وفي السنوات من 1954 وحتى قيام الثورة، إنشغل الوالد بتأمين لقمة العيش لأسرته التي بدأت تكبر. فعندما فر الوالد إلى عدن، في العام 1944، كان لديه إبنة واحدة، وزوجة واحدة. وحتى العام 1950 كان لديه، أربعة أبناء من زوجته الأولى. وهنا تزوج زوجته الثانية، إبنة عمه، وكانت أسرتها فارة في عدن أيضاً. ومن العام 1952، حصل على ولدين من الزوجتين، واستمر الأمر على هذا الحال، طفل أو طفلين كل عام أو عامين، إلى أن بلغ أبناؤه وبناته 14 ولد وبنت، وكل آخر مولودين له في العام 1960. وبعدها أجرى عملية لوقف الإنجاب. وعليك أن تتصور أعباء فتح بيتين وأسرتين و14 طفل. وكان يعينه في ذلك رجال الأعمال اليمنيين في عدن وفي المهجر، حيث كانوا يكلفونه ببعض أعمال التجارة التي تدر عليه ما يكفيه لتربية وتنشئة وتدريس أولاده الأربعة عشر. وكان الفضول يعيش وأسرتيه في بيوت بالإيجار، وكان عليه أن يبدأ في ترتيب مساكن خاصة بهم. وتمكن، بجهوده وبمساعدة أصدقائه، وفي المقدمة منهم السيد محمد بن يحي الوريث وكان مهاجراً في كينيا، وهو من أوائل الأحرار الذين استقر بهم المقام في المهاجر، تمكن الفضول من تأمين مساكن خاصة أشرف على بنائها صديقه عبدالله المنصوب، رحمه الله.
 
9.    هذا هو السبب الأساسي والجوهري الذي أدى إلى هجر الفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان للشعر والكتابة. غير أنه ظل يكتب في القضايا الوطنية من خلال صحيفة "الكفاح" لحسين علي بيومي في صفحة كاملة باسم "البسباس". وانتقل الفضول وأسرتيه إلى سكنهم المملوك له في العام 1963، في حي المنصورة بالشيخ عثمان. وهنا أنوه إلى أن أول قصيده عاد بها الفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان إلى قول الشعر هي التي وجهها إلى الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح الذي تولى علاج صديق عمره السيد محمد بن يحي الوريث، ولاتزال أسرته تعيش بكنف الكويت إلى يومنا هذا. وقد توفى الوريث في العام 1963. وونورد تلك القصيد هنا لأهميتها، ولأنها، فيما أعتقد كانت أروع ما كتب الوالد في العزاء وفي المدح لآل الصباح حكام الكويت.
إلى أخي الحبيب..
إلى البطل في عافيته وبلواه..
إلى الوريث
 
 
ذكرى إليك أصوغــها ونداءَ
وأود لو شاطرتـــك اللأواءَ
قعــدت بي الأيام عنك وإنما
أعطيــك عمري إن تراه دواء
قاسمتـني السراء وهي رغيـدة
فلمــاذا لم نتقـاسم الضراء
كم عشتَ تهزأ بالكـوارث كلما
واجهــت منها الزعزع النكباء
وشدتّ بك الأيام من قيثــارها
للنـــــاس لحنًا رائعًا وغناء
وفتحت قلبك للحيــاة وأهلها
تســـدي لها ولهم ندى وإخاء
فأخــذت تحبس دمع كل مروعٍ
هاضت جناحيه الحياة شقـــاء
ومضيــت تزرع ريشه في جنبه
حتى استطــــار بريشه خيلاء
بطــلا عرفتك في مراحل عيشنا
سعًـــا ورغدًا .. شقوة وعناء
ما عشــتَ إلا مشرفًا أو مغدقا
وحللت إلا القمــــّة الشماء
فلماذا لم تبـــق الحياة بوجهها
يا باهر اللحظـــات منك حياء
نضحتـك عطرا في جوانب بـرها
للآخريــن ونلـت منها الـداء
قذفتــك للوحـش المهول لئيمة
وتجنبت ببـــــلاءها اللوماء
سحقت بشدقيــه أعـز أرومة
وأجل قلـب ذمةً ووفــــاء
قد كنت أنت حياءها ورواءهــا
للآخرين ووجهها الوضــــاء
فلتبق بعدك في مسالك أهلهـــا
عبر السنين وقاحة جــــرداء
أمِّــلْ .. فكم ألغت شجاعة آملٍ
قــدرًا .. وكم هزم الرجاءُ قضاءَ
آل الصباح وأنتمو في مفرق الدنيــا تصوغون الحياة رخاء
بيض الوجوه من السماح كأنما أسقيتمـو ملء الصباح ضياء
أعطتــكم الأقدار أسخى جانب منها فغضتم نجدة وسخاء
والمال وطَّأَ من نفوس سواكمو أرضاً ومنكم للأنــام سماء
فمشيتمـو مزنـاً يوضّئُ جـودها قمم الجبال ويمرع الغبراء
ورسوتمو كالشامخـات وغيركم طارت به النعمى فطار هباء
ومـلأتمو الدنيـا ندىً وبصيرةً وسواكمـو ملأ الحياة غباء
حتى الصنيعـة من يديـه يريـدها فتجيـئ منه بذيئة حمقاء
ها كم وديعــة أمة عرفت به 
قبسًا أضاء أمــامها الظلماء
ونضته يوما في مجـال كفاحها
سيفــاً تذود بنصله الأعداء
حتى إذا أعطى المعـارك حقها
نصرا وأحسن في الصراع بلاء
غمدته في كنف المروءة منكمو
فحملتموه .. وكنتــم الأمناء
قد كنت ودعت القريـض ترفعا
إذ كلُّ ما حــولي يروم هجاء
وسمـوت عن لعق الجراح بمقولي
وصــرفت عنه يراعتي استعلاء
واليـــوم أحني هامتي ويراعتي
لكمو على صنع الجميــل ثناء
أحنيهما عن أمة لم يستطــع 
إلاّ الوفــــاء لرأسها إحناء
سلمت نفوسكمو المضيئة ولتكن
لكمو النفــوس الخابيات فداء 
 
وأنوه أيضاً إلى أن مقام الوالد بعد الثورة ظل في عدن، وكان هو يرواح في الذهاب والعودة إلى صنعاء وتعز، إلى العام 1966 حيث تم اعتقاله في صنعاء في سجن الرادع مع بقية الوطنيين، بسبب معارضتهم للتدخل المصري السافر في الشأن اليمني، وفي نفس الوقت الذي اعتقلت فيه حكومة الأستاذ أحمد محمد نعمان في القاهرة. وخلال هذه الفترة كانت بدايات قصص الوالد العاطفية، وباعتقاله عرفنا أنه تزوج الزوجة الثالثة في صنعاء، وهي السيدة نفيسة رفعت إبراهيم، وظلت زوجة له حتى وفاته. وهنا بدأ فيض الفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان الشعري يتحرك من جديد. وصحيح أن قصائد الفضول الشعرية كانت غنائية حسب ما فهم معظم الناس، إلا أن قصائده السياسية لم تكن تنشر، ومنها تلك التي وجهها من سجن الرادع بعنوان "أرض المروءات". وبعد إطلاقه من الرادع، تقلد منصب مدير مكتب الاقتصاد والجمارك في تعز، قبل تكليفه في حكومة عبدالله الكرشمي بتولي حقيبة وزارة الاعلام. وباستقراره في تعز، بعد استقالت حكومة الكرشمي، عينه الرئيس القاضي عبدالرحمن بن يحي الإرياني رئيس المجلس الجمهوري مستشاراً لشئون الوحدة، وهو المنصب الذي أتاح للفضول الاستقرار في تعز من وقت لآخر في تنقله بين صنعاء، مقر الزوجة الثالثة، ومدينة تعز. وبذلك بدأت قصة الحب التي أدت إلى الزواج الرابع للفضول. وظلت البيتان في عدن مفتوحان، والأبناء مستقرون هناك للدراسة، باستثنائي، حيث غادر في العام 1968 للدراسة في القاهرة. هكذا كان الفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان موزعاً عواطفه واهتماماته بين الخاص والعام. ولم ينتقل الأبناء للاستقرار في تعز إلى جانب والدهم حتى العام 1974.
 
10.                      وفي الباب الثاني "باب عدن"، تظرق المؤلف محي الدين علي سعيد، أود أن أوضح بأن قصيدة "منبع الموت أراني ألف ثلة ثللاً فيها رأيت الموت كله"(10) هي قصيدة لقوات المظلات بطلب من عبدالله عبدالعالم، عضو مجلس القيادة وقائد قوات المظلات، بعد 13 يونيو. والأبيات التالية لذلك البيت توضح ذلك، حيث يقول الشاعر"
 
أن فيها أعينُ المـــوتِ مطلة        كل فردً ضيغم يلبس حله
هابطاً من جوف صقر في مظلة         آخذاً في حومة الموت محله
 
11.                      أما عن قصيدة "راح من رونق بالأخلاق عمره ومضى من أسكن الإيمان صدره" فالمقصود بها الشهيد عبدالعزيز الحروي، من أقرب أصدقاء الوالد، وقد امتدت يد الغدر لتغتاله في بيروت في مطلع السبعينيات من القـرن الماضي(11). وعن قصيدة "لم يعد يرهبني لون الدماءِ لم يعد يرهبني صوت الفناءِ" فقد قيلت في الشهيد الشيخ محمد علي عثمان، الذي اغتالته يد الغدر والخيانة في تعز في مطلع السبعينيات أيضاً(12).
12.         في الباب الثالث المعنون "الحالمة تعز (الفضول وأيوب)"، استعرض المؤلف محي الدين علي سعيد، قصيدة "فاخراً جئت مزيراً كلمي وجه من صادق مجد القلمِ"(13)، وهذه القصيدة آخر قصيدة قالها الوالد الفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان في حضرة فخامة الأخ الرئيس علي عبدالله صالح، رئيس الجمهورية العربية اليمنية، حينها، عندما قلده وسام الآداب في القصر الجمهوري في صنعاء، يوم 5 مايو 1982، قبل شهرين من وفاة الوالد. وليس صحيحاً أن الوالد قالها في الرئيس الأسبق إبراهيم الحمدي، على الإطلاق. وقد صادف أن عشت مع الوالد معاناته البالغة وهي يعتصر ويكتب ويشطب ليعد قصيدة ليلقيها أمام الرئيس علي عبدالله صالح في تلك المناسبة. وبعد فراغه منها، تنفس الصعداء، وقال لي أنها أروع مما قاله المتنبي في سيف الدولة أو غيره. وكان فرِحاً به فرَحاً عارماً، رحمه الله.
13.                 وفي الباب الرابع "الظمأ العاطفي والهم الوطني في شعر الفضول وألحان أيوب"، أنطلق المؤلف محي الدين علي سعيد، في عاطفة جياشة واضحة للشاعر ولأيوب، في جهد صادق للقول أن الظمأ العاطفي هو المحرك الأساسي لقصائد وأغاني الفضول العاطفية. وحقيقة الأمر، أن والدي رحمه الله كان عاطفياً بشكل لا يصدق، ولم يكن يعاني من "ظمأ عاطفي" بالمفهوم الذي أراد المؤلف محي الدين علي سعيد أن يصوره، فقد رأى الفضول زوجته الأولى وعشقها وتزوجها، ولم تكن من قريته، وكانت من قرية قدس في الحجرية. وهي أم ثمانية من أولاده. وعشق بعدها وتزوج بعدها من زوجته الثانية، وهي إحدى بنات عمومته، وأم ستة من أولاده. ومع الإثنتان، لم يقل الشعر العاطفي، ولم يكن الفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان منشغلاً إلا بالهم الوطني وقضية الحرية والتخلص من النظام الإمامي.
14.                 وفي هذه الفترة، منذ هروبه إلى عدن، وحتى قيام الثورة شمال الوطن وسقوط النظام الإمامي، وإعلان الجمهورية العربية اليمنية، لم يقل الوالد شعراً عاطفياً أو غنائياً. وقد أوضحت ذلك هنا وفي "توطئات لابد منها" على هذا الموقع. وأوضحت أن بدايات غنائيات الفضول، إن جاز لنا التعبير، كانت مع بدايات تردده على صنعاء، وبدايات قصص عشق أخرى، فيها. وظل على هذا الحال إلى أن دخل السجن في العام 1966، على النحو الذي شرحته في التوطئات. وخلال سجنه عرفنا بزواجه الثالث. وقد جن جنون زوجته الثانية، أما الزوجة الأولى، والدتي، فقد كان جرح القلب قد جبر. ثم توالت قصص إلى أن كان الزواج الرابع من عزيزة أمين عبدالواسع. وقد أدى زواجه الأخير هذه إلى طلب زوجته الثانية للطلاق، وللمصادفة فقد كان اسمها عزيزة أيضاً، وهي ابنة عمة هذه الأخيرة، تألماً من الزوج، إبن العم، ومن الزوجة بنت العم. وكان لها ما أرادت، رغم أن أبي لم يكن يريد ذلك. وفي هذه الزوجة الأخيرة قال الفضول فيها قصائداً غناها أيوب طارش قبل زواج والدي منها ولعدة سنوات ربما بعد ذلك الزواج. وقد كانت قصة الحب قصة شهيرة في حينها. وكانت هذه آخر الزوجات، ولم يتزوج بعدها، كما ذكر المؤلف في الكتاب، وإن كان أحب بعدها حباً وأراد الزواج من حبيبته تلك، غير أن الأقدار لم تتح له ذلك، وداهمه الموت وهو يبكي حبه الأخير. وأعلم أن زوجة والدي عزيزة أمين نعمان كانت قد علمت بالأمر، وتعلم من هي تلك الملهمة المجهولة على الكثيرين.
15.                 ولعل بدايات قصائد وأغاني الحب الأخير للشاعر هي أغنية "حبيت" والتي قال فيها:
حبيت حبيت حبيت
ماشي حلمت أو ترأيت
  
وفي هذا الحب قال الفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان، قصيدة "هيمان"، ومنها:
 
مسكين أنا مسكيــن قلبي غوى
إذا سمع للحب داعي أجـــاب
وكلما حاسبـت قلـــبي سوا
أتى يغالطني ويثني الحســـاب
وإن قلت قد أقفلت باب الجوى
فتح لي قلبي فيه عشريــن باب
وإن قلت قلبي من هواه ارتـوى
حسَّيت في حِسِّي جفاف التراب
وإن قلت تَمَّينا كتاب الهــوى
أمسى الهوى عندي يؤلف كتاب
 
وبدأت قصة الحب تأخذ إتجاهاً نحو البعاد فقال الشاعر أغنية "لو كان قلبك قنعني" ومنها:
 
لـو كان قلبك قنعني أو هواك ارتوى
فقل لروحي بمـا قلبك لهــا نـوى
أراك قد ملت واعتطيـت الجفا للمنى
وكنت في الحب تمشى في طريقي سوى
 
أتيت في تاج كسرى يوم لاقيتــني
واليوم قد طاح إيوانك وعرشك هوى
كل القناديـل منك ضوءها قد خبـا
وجاءني ليل داجي في وجـودي أوى
 
ومع استمرار التجافي، قال الشاعر في حبيبته أيضاً، أغنية "هل عادك حبيب"، ومن أحلى أبياتها:
 
ماأدريش كيف قلبك رضي يروى وقلبي ما رضيش
أشـرب وأشرب من هوى غيرك ولكن ما ارتويش
والضوء في عيني إذا غَيَّبــت وجهك ما يضيش
خليتني ألقى وجوه الفجر أعشــى ما استضيش
وأحرقت أعشاشي وأرياشــي ولا خليت ريش
فارجع إلى أحضــان أيامي وخلّيني أعــيش
 
بك أنت مش بالنجم أو ضوء القمر
بك أنت مش بالغيم أو قطر المطـر
بك أنت مش بالفجر أو عطر الزهر
بك أنت لاقاني وواعدني القــدر
 
وفي قصيدة "شعرات منثورة"، تتفاقم حسرات وآلام الشاعر فيقول:
مِنْ بَعْدِ مَاسِرْنَا عَلَى دَرْبِنَا
وارْتَاحَتِ الأشْوَاقُ فِي قُرْبِنَا
وضَاقَ حَتَّى الكَأسَ مِنْ شُرْبِنَا
وغَارْ حَتَّى الحُبَّ مِنْ حُبِّنَا
قَدْ كانَ مَالَمْ نَحْتَسِبْ انْ يَكُونْ
 
فَلَمْ نَكُنْ نَدْرِي بِأنَّ الهَوَى
قَدْ يَنْقَضِي بَيْنَنَا أو يَهُونْ
مِنْ قَبْلَ أنْ نَقْضِي حُقُوقَ الجَوى
وُما عَليْنَا لِلْمُنَى مِنْ دِيُونْ
وقَبْلَ أنْ يِهْنَا بِنَا مَا ارْتَوى
فِي دِفْيءِ صَدْرَيْنَا بِمَاء ِالعِيُون
وفي قصيد "أين من عيني" عن لقاء فراق بينهما، قال الشاعر:
 
جَاءَنِيْ فِيْ طَلْعَةٍ كَالْفَلَقِ
وَاحْتَوَانِيْ فِيْ حَنَانٍ قَلِقِ
مُشْفِقَاً مِنْ أَنَّنَا لَنْ نَلْتَقِيْ
سَاكِبَاً مِنْ دَمْعِهِ الْمُؤْتَلِقِ
لُؤْلُؤَاً يَنْثُرُهَا فِيْ عُنُقـِيْ
 
و"الرسالة الخامسة"، ولعلها الخامسة في قصائده إليها، قال الشاعر لمحبوبته التي قررت الابتعاد:
 
أَيُّ شيءٍ بَعْدَ الْهَوَ, ى قَدْ لَقِيْنَا
يَاحَبِيْبِيْ..أَيُّ شيءٍ بَقِيْنَا
مَاتَرَانَا مِنْ بَعْدِهِ غَيْرَ مَا
يَتْرُكْهُ الْهَدْمُ فِيْ خَرَابٍ دَفِ, يْنَا,
لَسْتُ شَيْئَاً عَلَىْ الْحَيَاةِ
ولاَ أَنْتَ..فَمِنْ قَلْب, ِهَا الْحَمِيْمِ مُحِيْنَا
كَمْ حُسِدْنَا عَلَىْ هَوَانَا لأِنَّا
قَدْ لَبَسْنَا حَرِيْرَهُ وَكُسِيْنَا
فَلِمَاذَا حَرَقَتَ سُنْدُسَنَا مِنْهُ
وَمَزَّقْتَ سُتْرَنَا فَعَرِيْنَا
كَيْفَ أَلْحَدّتَ بِالْهَوَىْ يَاحَبِيْبِيْ
وَالْهَوَىْ كَانَ فِيْ فُؤادِكَ دِيْنَا؟
كيفَ أَغْرَقْتَ ملءَ فَجْرٍ مِنَ الضوءِ
بليلٍ أَسْدَلْتَهُ فَعَشِيْنَا؟؟
كيفَ أَحْرَقْتَ وجهَ شمسٍ كما لو
كُنْتَ فيها..وفي ضُحَاها كَمِيْنا؟؟
إنَّهُ الحُبُ كانَ فجراً نَدِيَّاً
وضحىً باسِمَ الجَوَانِبِ فِيْنَا
ومُرُوجَاً خُلْدِيَّهَ العِطْرِ خُضْرَاً
أَوْرَفَتْ فَوقَنَا ومَاءً مَعِيْنا
وغَمَامَاً سِحْرِيَّةً في نداها
لَبِسَ الشُّوكُ حَوْلَنَا اليَاسَمِيْنَا
لمْ نَجِدْ بَعْدَها نديً أو ظِلالاً
لكَأنَّا إلى جَحِيْمٍ نُفِيْنَا
لَنْ تُعِيْدَ المُرُوجَ والعِطْرَ والطّلَّ
إلينا دُمُوعُنَا لو بَكِيْنْا
والنَّدَامَاتُ لنْ تَعُودَ بِحُبٍ
سُحُبِيٍ في غَيْمِهِ قد نَدِيْنَا
فَلتَقُمْ بَيْنَنَا القَنَاعةُ أَنَّا
قَدْ أَضَعْنَا هناءَنَا وشَقِيْنَا
ومُنَانَا تَيَتَّمَتْ وهَيَ تَدْرِي
أيُّنَا لَمْ يَكُنْ علَيها أَمِيْنا
 
وفي ختام القصائد قال الشاعر رائعته "يامن رحلت إلى بعيد"، وهي التي كانت نبوءة الموت القادم، وكان يتمنى عودة الحبيب، ويستجديه الرجوع:
 
يَامَنْ رَحَلْتَ إِلَىْ بَعِيْدْ وَدَخَلْتَ أَعْمَاقَ الْبَعِيْـــدْ
وَتَرَكْتَ خَلْفَكَ كُلَّ زَخَّــارٍ وَخَضْــرَاءٍ وَ بِيْدْ
قَصِّرْ مَسَافَاتَ الْمَدَىْ بَيْنِيْ وَبَيْنَكَ لاَ يَــــزِيْدْ
فَلَرُبَّمَا عَادَ الْهـَوَىْ وَ أَعـَادَكَ الْلَّـهُ الْمُعِيْــدْ
 
كَمْ كُنْتْ لَمَّيْتَكْ لَمُوْمَ الْرِّيْشْ فِيْ الْعَصْفِ الْشَّدِيْدْ
وَمَشَـتْ لُحُوْنِيْ فِيْكْ تَهّدِلُهَا الْيَمَامُ عَلَىْ الْجَرِيْدْ
وَخَبَـــأْتُ حُبَّكْ بَيْنَ نَبْضِيْ فِيْ تَعَارِيْجِ الْوَرِيْدْ
فَأَبَيْتَ إِلاَّ أَنْ تَعُـوْدَ إِلَىْ ضَيَاعِـكْ  مِنْ جَدِيْـدْ
 
يَاخَاتَـمَ الأَلْحَـانْ فِيْ وَتَـرِيْ وَخَاتِمَـةَ الْنَّشِيْدْ
قِيْثَـارَتِيْ بَكُمَتْ .. فَمَا تُبْدِيْ الْلُّحُـوْنَ وَلاَ تُعِيْدْ
وَخَرَسْـتُ بَعْـدَكَ لَلْحَيَاةِ .. فَلاَ غِنَاءُ و لاَ نَشَيْدْ
وَوَرَثْتُ مِنْكَ مَسَاحَةَ الأَحْزَانْ يَاحُــزْنِيْ الْمَدِيْدْ
مَاقِيْمَـةُ الأْيَّـامِ بَعْدَ هَـوَاكَ تَنْقُـصُ أَوْ تَزِيْـدْ
فَلَقَدْ أَرَدْتُ وَكُنْتَ لِيْ فِيْ الْعُمْـرِ آخَرُ مَا أُرِيْـدْ
وَ لَئِنْ رَحَلْتَ فَلَنْ تُرِيْـحَ مَدَامِعْـيْ أَوْ أَسْتَفِيْـدْ
سَتَظَلَّ مُوْسِيْنِـيْ وَمُشجِيْنِـيْ وَمُبْـكِيْنِيْ الْوَحِيْدْ
وَ يَعِيْشُ خُلْفَكَ مِنْ وَرَاءِ الْرِّيْحِ إِحْسَاسـِيْ شَرِيْدْ
وَتَـطُوْلُ فِيْ رُوْحِيْ الْصَّلاَةُ عَلَيْكَ يَاحُبِّيْ الْشَّهِيْدْ
 
يَا آخِـرَ الأَحْقَاقِ    يَحْضُـنُ لُؤْلُؤَ الْحُبِّ الْفَرِيْـدْ
يَا آخِـرَ الأَرْزَاقِ   مِنْ قَـدَرِيْ وَفِيْ عَيْشِيْ الْرَّغِيْدْ
يَا آخِـرَ الأَشْوَاقِ   فِـيْ سَهَرِيْ وَ فِيْ قَلْبِيْ الَْعَمِيْدْ
يَا آخِـرَ الأَوْرَاقِ    مِنْ شَجَرِيْ تَسَاقَطَ فِيْ الْجَلِيْدْ
يَا آخِـرَ الإِشْرَاقِ    فِيْ عُمْرِيْ .. وَآخِرَ وَجْهِ عِيْدْ
 
وبعد أن ارتبطت حبيبته برجل آخر، خلافاً لوعد بالبقاء على الحب، قال الفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان، آخر قصيدة قبل وفاته، وهي القصيدة المؤلمة "غدار"، والتي قال في نهايتها:
 
غدَّارْ .. بعد اليوم لن نلتقـي
فقد صنعـت النعش والمأتمـا
وليس عندي خشيـة المشفقِ
إن انتـهي حزناً وأن أندمـا
فلو طرحت التاج في مفرقي
ما كنت إلاَّ قاتلي الأعظمـا
 
وبعد هذا يحق لنا أن نتساءل، هل من الممكن أن تكون مصدر الإلهام لهذه الحرقة والألم موجودة مع الشاعر في بيت كزوجة؟ هل من الممكن أن يظل الحب على اتقاده بعد الزواج، ويظل الإلهام هو نفسه، وقد تحقق الإلتئام باللقاء الدائم، الزواج؟ وقد كان المؤلف محي الدين علي سعيد، قد اقترب من السر، حينما تناول بعضاً(14) من أبيات هذه القصيدة كما تغنى بها أيوب طارش، وتساءل عمن هو المقصود بهذه القصيدة الحزينة(15)، وحينما تساءل أيضاً عما إذا كان الفصول قد رثى نفسه بهذه القصيدة الرائعة. وكما سبق أن أشرت، فإن الوالد، رحمه الله، قد قال كل القصائد العاطفية في الخمس السنوات، إن لم تكن السنوات الست الأخيرة من حياته في إمرأة أحبها ولم يتمكن من الارتباط بها. وكانت مصدر إلهامه الوحيد في كل ما قاله. وسوف يجد القارئ أن كل القصائد العاطفية الأخيرة التي قالها الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان الفضول، تحمل نفس نَفَس الحزن العميق، واقتراب الأجل ورثاء الذات والنبوءة باقتراب ودنو أجله. ولايعقل أن تكون تلك القصائد في زوجته والحبيبة التي كان يعيش معها. ومستحيل أن تكون هذه الزوجة هي الملهمة لهذه القصائد المفعمة بالألم على الحلم الذي لم يتحقق. وقد ظل الشاعر وحبيبته على تواصل، رغم كل المحن والألم، حتى آخر يوم في حياته.
16.  ولعل هذا الشرح يصحح كثير مما ذهب إليه المؤلف محي الدين علي سعيد، وذهبت إليه زوجة والدي السيدة عزيزة أمين نعمان من أنها ملهمة الفضول الوحيدة، ويضع الأمور في نصابها الصحيح.(16)          
يتبـــع


(1) كتاب "الظمأ العاطفي في شعر الفضول وألحان أيوب"،  للأستاذ محي الدين علي سعيد، ص 43.
(2) نفس المرجع
(3) نفس المرجع ص 12
(4) نفس المرجع ص 14 وص 30، وقد وصم المؤلف محي الدين علي سعيد، من غير قصد، كلمات أغنية القمندان بالركاكة، في حين أن القمندان من أروع من قال شعراً غنائياً في اليمن على الإطلاق، لايزال يصدح بها كل فنانو اليمن والخليج.
(5) نفس المرجع ص 18 وص 20 وغيرها.
(6)  نفس المرجع ص 40
(7)  نفس المرجع ص 41
(8) نفس المرجع ص 50 و51
(9) نفس المرجع ص 65
(10) نفس المرجع ص 69.
(11) نفس المرجع ص 69
(12) نفس المرجع ص 71
(13) نفس المرجع ص 80
(14) نفس المرجع ص 140
(15) نفس المرجع ص 140
(16) في الكتاب كله يضع المؤلف هذه الفرضية، وفي  "قصة الحب الكبير بين الفضول وملهمته الصغيرة" الصفحات من 476 حتى 491.
 
    Up     Back
Copyright: www.alfudhool.com Email: info@alfudhool.com